ربما يشتبه الحياء بالرياء في بعض الحالات، فيدعي من يرائي بأنه يستحيي، أن إخفاء السيئات أو تحسينه العبادة إنما هو لأجل الحياء
ربما يشتبه الحياء بالرياء في بعض الحالات، فيدعي من يرائي بأنه يستحيي، أن إخفاء السيئات أو تحسينه العبادة إنما هو لأجل الحياء من الناس دون الرياء، أي أنه يحاول أن يغطي الرياء بالحياء.
ولكن من الممكن التفريق بين الحياء والرياء؛ فإن الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم الذي يختزن القيمة الأخلاقية الروحية، ومن الممكن أن يدفع نحو الرياء، كما أنه من الممكن أن يدفع نحو الإخلاص.
ويضرب لذلك مثل، شخص يطلب من صديقه قرضا. فتارة يرده (يمنعه) من دون أن يتعلل بعذر، فهذا خلاف الحياء. وأخرى يعطيه بمجرد نفور نفسه من استشعار قبح رده، ولكن دون رغبة في الثواب ولا خوفا من ذمة أو حبا بمدحه، وثالثة يتعذر عليه الرد بسبب الحياء، وكان ما في نفسه من البخل مانعا من الإعطاء، فحدث في نفسه خاطر الرياء ليحصل على مدح بالسخاء، فمزج الحياء بالرياء، وكان الرياء هو المحرك له. فلا إشكال في أن هذا من مصاديق الرياء.
ولذلك نقول: إن على الإنسان أن يعرف كيف يستطيع أن يفصل الحياء عن الرياء بأن يدرس الدوافع النفسية في ما يقوم به من أعمال عنوانها الخير، ولكن قد يختفي في داخلها الشر النفسي في أنه يريد أن يتقرب إلى الناس بذلك ليمدحوه.
أقسام الرياء:
ينقسم الرياء إلى رياء في الأصول، ورياء في الفروع:
الأول- الرياء العقيدة:
أما الرياء في العقيدة، أو أصول الدين، فهو على درجات:
الأول الرياء بأصل الإيمان، أي هو يظهر الإيمان ليعتقد الناس فيه أنه مؤمن، ولكنه يبطن الكفر في داخل نفسه. وهذا أغلط أنواع الرياء، وصاحبه مخلد في النار؛ لأنه كافر في العمق فيما يخفيه في داخل نفسه، وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب، فيرائي بظاهر الإسلام.
وهذا هو الذي ذكره الله تعالى كتابه في مواضع شتى، كقوله عز وجل: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)، فهم كاذبون من خلال ما يعتقدونه في أنفسهم؛ لأن الشهادة هي مطابقة الكلام لما في القلب، وقولهم (قالوا نشهد إنك لرسول الله) هو قول كاذب؛ لأن كلامهم لا يطابق ما يعتقدونه في قلوبهم.
وقال تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام* وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك اللحرث والنسل والله لا يحب الفساد). هذا مثال الذي يقدم نفسه أمام الناس، سواء في المسألة الدينية أو في المسألة الاجتماعية أو في المسألة السياسية، على أنه الإنسان المصلح، وأنه الداعية للإسلام، وأنه الذي يريد أن يحقق سلامة المجتمع ووحدته؛ حتى يرغب الناس في تأييده وفي الاتزام بخطه؛ ليجعلوه وليا عليهم، ولكنه يخفي في نفسه الخطة الخبيثة التي تعيش في داخل ذاته، من أنه يخطط ليفسد في الأرض ويهلك مقدرات البلاد والعباد. وكم عندما في الواقع السياسي مثل هؤلاء المرائين، وكم هم في الواقع الديني!
قال تعالى: (وإذا لقوكم قالوا أمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)، فهو هنا يتحدث عن اليهود الذين إذا رأوا المسلمين أظهروا لهم الإيمان، ولكنهم إذا خلوا بأنفسهم، امتازوا غضبا من خلال العداوة التي يعيشونها في أنفسهم.
وقال تعالى- عن المنافقين: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا* مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- أي لا إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين- ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا).
وهكذا تتعدد في القرآن الآيات الكريمة التي تتحدث عن هؤلاء الذين يراءون في العقيدة؛ فيظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويظهرون الإصلاح في الدين ويبطنون الفساد فيه.
وهذا مما ابتلي به الإسلام في أول انطلاقته، ولا سيما في المدينة؛ إذ كثر النفاق في الدين؛ فكانوا يجحدون الجنة والنار والدار الآخرة، ميلا إلى قول الملحدين وما إلى ذلك.
ونحن نعتقد أن هناك الكثير من الناس الذين يظهرون الإسلام ولكنهم ينكرون ضرورات الدين، كإنكار الصلاة أو الصوم أو الحج، أو إنكار بعض المحرمات وما إلى ذلك؛ وهذا نوع من الرياء في العقيدة، حيث يظهر الإنسان الإسلام، والتزامه بعقيدته، بينما ينكر ما يستلزم إنكار خصوصيات العقيدة، من تكذيب النبي الذي لا ينطق إلا صادقا.
الثاني: الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين
فهم مسلمون يشهدون بالشهادتين، ويؤمنون بالعبادات، ولكنهم يراؤن في الممارسة. كما لو كان لعضهم مال، يخرج زكاته، لا لأنه يريد امتثال أمر الله، بل لكي يعطي الناس انطباعا أنه ممن يخرجون الزكاة. أو كمن يدخل وقت الصلاة، وهو بين الناس، ومن عادته ترك الصلاة في أول وقتها، فينطلق إلى الصلاة، ليأخذ الناس عنه أنه ممن يحافظون عليها. أو يكون ممن يحضرون الجمعة أو الجماعة، ولو لا خوف الناس وخوف المذمة لما حضرها، أو أن يأتي بالنوافل، ولو لا الناس ما أتى بها، أو يصل رحمه أو يبر والديه، لكون لا عن رغبة، إنما خوفا من الناس أن يعيبوا عليه، أو طمعا في مدحهم.
فمثل هؤلاء ليسوا مرائين بأصل الإيمان، ولكنهم يراؤون في أساسياته، كالعبادة وسائر الواجبات